أفريقيا في عهد بايدن- طموحات أمريكية وتحديات أفريقية متزايدة

أثارت الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس هيئة الأركان الأميركية إلى بوتسوانا في نهاية الشهر الماضي، واجتماعه بعدد من وزراء الدفاع الأفارقة لمناقشة مسألة إيجاد مقر بديل للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" بدلاً من مقرها الحالي في شتوتغارت بألمانيا، العديد من التساؤلات حول مكانة أفريقيا في السياسة الخارجية لإدارة بايدن. هل تشير هذه التحركات إلى تحول في نهج بايدن مقارنة بنهج سلفه ترامب في التعامل مع القارة؟ والسؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا لم يقم بايدن بزيارة القارة حتى الآن، خاصة في ظل تراجع الترحيب الرسمي والشعبي بالوجود الأميركي، لاسيما في دول مثل النيجر وتشاد؟
بايدن وأفريقيا
منذ توليه مقاليد الحكم قبل ما يزيد على ثلاث سنوات، أظهر الرئيس الأميركي جو بايدن اهتمامًا ملحوظًا بالقارة الأفريقية، في تناقض واضح مع سلفه ترامب الذي لم تطأ قدماه أرض القارة الأفريقية، في خروج صريح على الأعراف الدبلوماسية الأميركية تجاه قارة تعتبر الأكبر والأكثر تأثيرًا من حيث الثقل التصويتي في الأمم المتحدة، حيث تمثلها 54 دولة.
وقد استند اهتمام بايدن بالقارة إلى مجموعة من الأسس والآليات المحددة:
أولاً: العمل على تحسين العلاقات المتوترة بين بلاده وأفريقيا، والتي شهدت تدهوراً كبيراً خلال فترة حكم ترامب، الذي لم يكتفِ بعدم زيارة أي دولة أفريقية، بل تجاوز ذلك إلى وصف دول القارة بعبارات مهينة، وتبني شعار "أميركا أولاً"، متجاهلاً دول القارة، ومفسحاً المجال أمام روسيا والصين للتوسع والنفوذ في أفريقيا، سواء من خلال الدبلوماسية الناعمة المتمثلة في القروض والمنح الصينية، أو القوة الصلبة المتمثلة في التدخل الروسي عبر مجموعة فاغنر.
وبناءً على ذلك، أصبح ترميم هذه العلاقة المتضررة أمراً ملحاً بالنسبة لإدارة بايدن. وقبل انعقاد القمة الأميركية الأفريقية التي استضافتها الولايات المتحدة في أواخر عام 2022، حرص بايدن على تخصيص حزمة مساعدات ضخمة بقيمة 55 مليار دولار لدعم النمو الاقتصادي في القارة. كما تعهد للرؤساء الأفارقة خلال زيارتهم لواشنطن بأن بلاده ستبذل قصارى جهدها لدعم جهود التنمية في أفريقيا، وبحث تمديد العمل بقانون النمو والفرص في أفريقيا "أغوا"، الذي من المقرر أن ينتهي في عام 2025، والذي يهدف إلى تعزيز فرص الدول الأفريقية في الحصول على إعفاء جمركي لحوالي 6500 منتج يتم تصديره إلى السوق الأميركية.
ثانياً: السعي إلى حشد التأييد الأفريقي في المحافل الدولية، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا والانقسام الأفريقي بشأن الموقف منها. وقد تجلى ذلك بعد أن اتضح أن الولايات المتحدة تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، في مقابل العرض الروسي بتصدير القمح مجاناً إلى أفريقيا. وقد انعكس ذلك على الموقف الأفريقي في الأمم المتحدة، حيث امتنعت حوالي نصف الدول الأفريقية عن التصويت، بما في ذلك تنزانيا التي زارتها نائبة الرئيس كامالا هاريس في مارس/آذار 2023.
ثالثاً: إطلاق الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه القارة، والتي أعلن عنها وزير الخارجية بلينكن في أغسطس/آب 2022. ترتكز هذه الإستراتيجية على عدة محاور سياسية وأمنية واقتصادية، من أبرزها دعم عملية التحول الديمقراطي من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، ومواجهة الأنشطة الصينية الضارة في أفريقيا، وكذلك المعلومات المضللة الروسية، التي دفعت العديد من دول القارة إلى تصديق الرواية الروسية في تبرير حربها على أوكرانيا، واتخاذ موقف عدم الانحياز في الأمم المتحدة عند طرح القضية للنقاش. بالإضافة إلى ذلك، تهتم الإستراتيجية بدعم الجيوش الوطنية، خاصة في مجال مكافحة الإرهاب.
رابعاً: الحرص على تنظيم القمة الأميركية الأفريقية الثانية في ديسمبر/كانون الأول 2022، بعد انقطاع دام 8 سنوات، حيث لم يتم عقدها خلال فترة حكم ترامب بسبب موقفه من القارة. وخلال هذه القمة، أكد بايدن اهتمامه بالقارة السمراء من خلال عدة مبادرات، بما في ذلك ضرورة منح أفريقيا مقعداً دائماً في مجلس الأمن في إطار خطة إصلاح الأمم المتحدة، وتعهده بالسعي لتحقيق ذلك، بالإضافة إلى ضرورة انضمام أفريقيا إلى مجموعة العشرين، وهو ما تحقق لاحقاً.
خامساً: زيادة الاستثمارات الأميركية في مشاريع البنية التحتية على غرار الاستثمارات الصينية، باعتبار أن ذلك يساهم في تعزيز شعبية الولايات المتحدة لدى الشعوب الأفريقية، من خلال تقديم خدمات ملموسة لها بدلاً من السياسات التقليدية السابقة القائمة على تقديم المساعدات أو القروض للحكومات، والتي قد لا تصل إلى هذه الشعوب بسبب انتشار الفساد على نطاق واسع.
ولذلك، ليس من المستغرب أن تعلن واشنطن عن مبادرة الشراكة العالمية في مجال الاستثمار والبنية التحتية، وأن تقوم منذ عام 2021 بإبرام أكثر من 800 صفقة تجارية واستثمارية مع 47 دولة أفريقية من إجمالي 54 دولة، بقيمة إجمالية تقدر بأكثر من 18 مليار دولار. كما قامت مؤخراً بعقد شراكة لبناء توسعة في ميناء برايا، عاصمة الرأس الأخضر، بمبلغ 150 مليون دولار. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت واشنطن عن 550 اتفاقية تجارية واستثمارية جديدة مع الدول الأفريقية، بزيادة قدرها 67% عن الأعوام الماضية.
تكثيف الاهتمام الدبلوماسي الأميركي بالقارة
شكل تكثيف الاهتمام بالقارة على المستوى الدبلوماسي إحدى الآليات الأساسية للإستراتيجية الأميركية الجديدة، وذلك من خلال زيادة زيارات كبار المسؤولين في إدارة بايدن إلى الدول الأفريقية.
وقد قام وزير الخارجية أنتوني بلينكن بزيارة القارة أربع مرات. كانت الزيارة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وشملت كينيا في الشرق، نظراً لدورها في تسوية الحرب في إثيوبيا ضد تيغراي، والصومال ضد حركة الشباب المجاهدين، ونيجيريا، أكبر دولة في الغرب، والتي تربطها علاقات وثيقة مع الصين، التي تعد أكبر الدائنين لها في مجال البنية التحتية. وجاءت زيارته للسنغال في الغرب قبل أيام من القمة الصينية الأفريقية التي استضافتها دكار.
أما الجولة الثانية لبلينكن فكانت في أغسطس/آب 2022، وسبقتها جولة وزير الخارجية الروسي لبعض دول القارة، مثل مصر والكونغو وأوغندا وإثيوبيا، وكذلك الرئيس الفرنسي ماكرون للكاميرون وبنين وغينيا بيساو.
وأعلن بلينكن خلال هذه الجولة عن الإستراتيجية الأميركية تجاه القارة، وشملت الجولة كلاً من جنوب أفريقيا، أكبر دولة اقتصادية في القارة، والكونغو الديمقراطية ورواندا بسبب الحرب الدائرة في شرق الكونغو ودور رواندا فيها. وجاءت هذه الزيارة قبيل انعقاد القمة الأميركية الأفريقية الثانية التي استضافتها واشنطن في ديسمبر/كانون الأول 2022.
أما الجولة الثالثة فكانت في مارس/آذار 2023، أي بعد القمة الأميركية الأفريقية بثلاثة أشهر، وتزامنت مع زيارة كامالا هاريس نائبة الرئيس لكل من غانا وزامبيا وتنزانيا، حيث زار بلينكن كلاً من إثيوبيا والنيجر، وأعلن خلالها عن تقديم مساعدات بقيمة 150 مليون دولار لمنطقة الساحل الأفريقي لمكافحة الإرهاب.
أما الجولة الرابعة فكانت في أوائل هذا العام، وشملت كلاً من الرأس الأخضر وساحل العاج ونيجيريا "للمرة الثانية" وأنغولا. وجاءت هذه الجولة بعد أسبوع واحد من زيارة وزير الخارجية الصيني لكل من مصر وتونس وساحل العاج وتوغو.
وربما لم يكن بلينكن الشخصية الأهم في زياراته للقارة، فقد زارها أيضاً وزير الدفاع لويد أوستن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث زار كلاً من كينيا وجيبوتي وأنغولا، تلتها زيارة قائد الأفريكوم لكل من بنين وغانا وساحل العاج في مايو/أيار الماضي لبحث إمكانية استضافة مقر الأفريكوم في أفريقيا بدلاً من مقره الحالي في شتوتغارت الألمانية.
ويمكن ملاحظة ما يلي فيما يتعلق بهذه الزيارات:
أولاً: أنها ترتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالتحركات الدبلوماسية الروسية والصينية في القارة.
ثانياً: التركيز على شرق ووسط وغرب أفريقيا بسبب تصاعد العمليات الإرهابية وتراجع النفوذ الفرنسي والأميركي، في مقابل تنامي النفوذ الروسي، وانتشار الفيلق الروسي في مرحلته الأولى في 5 دول، هي: أفريقيا الوسطى وليبيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، وربما تنضم إليهم تشاد لاحقاً.
فهذه الزيارات الأميركية مرتبطة بالأوضاع الأمنية، سواء بسبب الحروب الأهلية الداخلية "إثيوبيا"، أو تلك التي لها امتدادات إقليمية "شرق الكونغو الديمقراطية"، أو المتعلقة بمواجهة الحركات المسلحة خاصة في منطقة الساحل وخليج غينيا، وهي منطقة تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في العمليات العسكرية. ووفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024، استحوذت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء وحدها على 59% من عدد ضحايا هذه الاعتداءات، خاصة في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، التي تواجه تحديات تعدد الانقلابات وضعف سلطة الدولة.
كما احتل تنظيم الدولة بفروعه المختلفة، ومنها غرب أفريقيا، المرتبة الأولى بنسبة 14% من الهجمات، بالإضافة إلى تنظيم "جبهة نصرة الإسلام والمسلمين" في منطقة الساحل، والذي ينشط في عدة دول مثل بوركينا فاسو والنيجر ومالي وتشاد وموريتانيا. وبحسب التقرير، فإن نحو 50% من هجمات التنظيم وقعت في بوركينا فاسو، بينما وقعت 25% منها في مالي.
وجاء تنظيم حركة الشباب المجاهدين في المرتبة الرابعة عالمياً بسبب عملياته في الصومال وكينيا المجاورة أيضاً، وازدادت عملياته مع بدء انسحاب قوات حفظ السلام الأفريقية من البلاد. ومن بين الدول العشر الأكثر تأثراً بالإرهاب، نجد أن المقدمة أفريقية، وهي: بوركينا فاسو ومالي والصومال ونيجيريا والنيجر.
ولهذا السبب، أقرت إدارة بايدن في العام الماضي خطة لدعم استقرار عدد من الدول المطلة على خليج غينيا لمدة 10 سنوات.
ثالثاً: تركيز الزيارات على بعض الدول "المحاور" في أقاليم القارة المختلفة، مثل إثيوبيا وكينيا وتنزانيا في الشرق، ونيجيريا والسنغال وساحل العاج في الغرب، وجنوب أفريقيا وأنغولا في الجنوب، والكونغو الديمقراطية ورواندا في الوسط.
وهي دول إما ضالعة في تسوية الصراعات في الإقليم الذي تتواجد به "حالة كينيا"، أو تلك التي تعاني من مواجهات مسلحة مع الجماعات الجهادية "نيجيريا، النيجر"، أو تلك التي لها موقع استراتيجي هام على طرق التجارة الدولية، مثل الدول المطلة على المحيط الأطلسي "أنغولا ونيجيريا والرأس الأخضر"، فضلاً عن تلك التي كانت خاضعة تاريخياً للنفوذ الشيوعي "أنغولا".
رابعاً: أنها تضمنت دولاً تعاني من عثرات اقتصادية كبيرة، رغم استقرارها السياسي النسبي. وبالتالي، توجهت إلى الصين لبحث سبل الخروج من هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة. وهي سمة ميزت زيارة كامالا هاريس لكل من غانا، التي تسعى لإعادة هيكلة ديونها وسط ارتفاع كبير في معدلات التضخم التي بلغت أكثر من 50 في المئة، وزامبيا، وهي الدولة التي رغم غناها بمعدن النحاس، باتت أول بلد أفريقي يعجز عن سداد ديونه بعد أزمة وباء كوفيد.
وفي مقابل ذلك، تضمنت الزيارة دولاً تحوي موارد طبيعية هائلة، تسعى واشنطن للحصول عليها بأسعار تفضيلية، لذا قامت بتدشين خط سكة حديد بطول 1300 كيلومتر، ينطلق من مواقع التعدين في الكونغو الديمقراطية، مروراً بزامبيا، ووصولاً إلى موانئ أنغولا على المحيط الأطلسي، بتكلفة تقدر بـ 250 مليون دولار.
لماذا تأخّرت زيارة بايدن للقارة؟
بالرغم من كل هذه الأنشطة الدبلوماسية الأميركية في القارة، يبقى السؤال الذي يطرحه الأفارقة هو: لماذا لم يزر بايدن أيًا من دول القارة جنوب الصحراء حتى الآن، لا سيما أنه أعلن خلال القمة الأميركية الأفريقية الأخيرة بأنه يخطط لذلك، دون الإعلان عن موعد أو وجهة محددة لرحلته؟
أصبحت هذه الزيارة ضرورية، لا سيما في ظل الموقف الأفريقي الرافض للسلوك الأميركي سواء في حرب أوكرانيا أو في طوفان الأقصى، وبالتالي، من الضروري أن يطأ الرئيس الأميركي أرض القارة في محاولة لتحسين الصورة الذهنية الأميركية، تلك الصورة التي اهتزت مرة أخرى بسبب اللهجة المتعالية التي تتعامل بها الدبلوماسية الأميركية مع بعض دول القارة، فضلاً عن اتهام بعضها الآخر لواشنطن بالتدخل في شؤونها الداخلية بحجة الديمقراطية، على عكس النهج الصيني والروسي. وقد أدى ذلك إلى مطالبة قادة الانقلاب في النيجر بسحب القوات الأميركية، ومطالبة تشاد بمراجعة الاتفاق الأمني مع واشنطن.
لكن إذا كان بايدن يخشى من زيارة الأنظمة الانقلابية "الخارجة عن القانون" المخالفة للقوانين الأميركية التي لا تجيز التعامل مع الأنظمة التي وصلت إلى الحكم بطريقة غير دستورية، فماذا عن الأنظمة الديمقراطية الأفريقية التي ترى في المقابل أن واشنطن هي من تدعم الديكتاتورية "الإسرائيلية"، وتستخدم ورقة الديمقراطية فقط في تعاطيها مع دول القارة؟
أليس من الأولى له زيارة هذه الدول وإزالة هذا الالتباس، أم أنه يخشى من المواجهة التي يبدو أنها لن تقتصر على قادة هذه الدول فحسب، وإنما "وهذا هو الأخطر" على الشعوب الأفريقية التي عرفت الوجه الحقيقي لأميركا في حرب غزة، بالإضافة إلى اكتشافها أن واشنطن تسعى مثل باريس لتأمين مصالحها في القارة دون أدنى اهتمام بمصالح هذه الشعوب؟
